المسرح المصري القديم :
إن وجود المسرح في مصر ليس
وليد الحداثة لكنه أصيل وعريق عراقة هذا الشعب الضارب بجذوره فى أعماق التاريخ
، وأقدم بكثير من وجود المسرح الإغريقى ، حيث نشأ المسرح المصري وعاش مرتبطًا بالدين ارتباطًا وثيقاً لا تنفك عراه ، فوجود واستمرارالطقوس الدينية والعادات
والعبادات كانت هي الداعم الرئيس لاستمرار المسرح ، فإذا اختفى الدين من حياة المصرى
القديم فسينعكس دون أدنى شك سلبًا على وجود المسرح المصرى الذى خُلق متلازمًا معه .
وعلى النقيض من ذلك كان المسرح اليوناني ، فبالرغم من أنه نشأ فى البداية مرتبطًا بالدين
إلاّ أنّه ما لبث أن خرج من تحت عباءته وانفصل عنه وظل مستقلًا ، فعاش زمنًا طويلاً وهذا هو السبب فى استمرار
المسرح اليوناني ، ولا ينبغي القياس أوالمقارنة بين المسرح الحديث بمفهومه ومعناه الشامل فى عصرنا الحديث وبين نشأة
المسرح القديم فى مصر القديمة ، فلا يُمكن أن نُقّيم المسرح المصرى القديم بنفس المعايير الحديثة .
فليس هناك شك أن نشأة المسرح عند الإغريق
القدماء قد انبثقت وترعرعت من خلال المسرح المصرى القديم ، نظرًا لأنّ المسرح المصرى
هو الأقدم بأزمنة تاريخية بعيدة ، فيرى الدكتور ثروت عكاشة أنّ المؤلفون المسرحيون الأغريق قد استفادوا
الكثير من المسرحيات الدينية المصرية ،
وليس هناك شك في أنّ الشعائر الدينية المصرية القديمة تحمل في طياتها نمطًا دراميًا
يتجلى مع النظرة الأولى ،واذا كانت الشعائر الدينيه عند اليونان هي المدد الأول
الذي انبثق عنه المسرح اليوناني لذا نحا
الدارسون للمسرح المصري هذا المنحى .
ونجد
هذا النمط الدرامي متمثًلا في الشعائر التي تنزع الى التذكير بالأحداث القديمة أو النائية بحركات
وألفاظ يسترجع بها الفكرصورها ، وإن لم يكن هذا من العرض المسرحي في شيء ، وما كان
شهود العرض غير الكهنة الذين يحضرون الصلاة مثل تلك المسرحية التي تحكي قصة إيزيس
واُوزوريس والتي كانت تُمثّل في حفل سنوي بأبيدوس ، وقد وصف " بلوتارخوس " هذا الحفل
بأنه إحياء لذكرى عثور إيزيس على جثة زوجها اُوزوريس .
وأمَّد الأدب اليوناني
لقصته التي تحكى مصرع اوزوريس على يد أخيه ست ،وإلقاء جثته في اليم ثم نهوض حورس
بعد أن شب للثأر من عمه لأبيه وذلك بعد أن عثرت اُمه على جثة زوجها ثم تتويج
الألهة له ملكًا على عرش مصر ، وقد نقل هيرودوت إلى الأدب اليوناني قصص مسرحية
دينية مصرية كانت تقام لها حفلات في " بررعمسيس " شرقىِّ الدلتا ، فقد اُوتيح له وكان مارًا بمدينة "
صا الحجر " سنة 450 ق . م أن يدخل المعبد ، ولا يُفصح عمّا يراه من الشعائر
التي كانت تُقام في المعابد المُعّدة لعبادة اوزوريس شأنه في ذلك شأن غيره .
وقد أشار هيرودوت بقوله يوجد في معبد الألهة " نيت " بمدينة صا
الحجر قبر ذلك الذي لا أعتقد أنّه يحق لي أن اُفصح عن إسمه ، قاصدًا اوزوريس الذي
كانت له أضرحة رمزية في جميع المعابد المصرية ، ثم يستطرد وكانت تُقام على
البحيرة ومع الليل عروض تُمثّل آلآمه وكان المصريون يُسموّنها مسرحيات دينية ، ويُعّد هيرودوت شاهد اثبات يُعطينا
فكرة واضحة وشاملة لما شاهده فى تلك
الفترة ،ويذكر أنّ المسرحية الدينية التي
كانت تتمحور فكرتها حول آلام اوزوريس يبدأ حفلها ليلاً على شاطئ البحيرة المقدسة الملحقة بالمعبد .
وجدير بالذكر أنّ علماء الآثار قد عثروا على قرائن وأدلة لهذه البحيرة المقدسة بين
أطلال المعابد في الكرنك ، و دندرة ، والمدامود ، والطود ، وتمكّن الباحثون والدارسون من اجبار هيرودوت على كشف وإذاعة ما أراد أن
يُخفيه حيث ظل يحفظ هذا السر لفترات طويلة ، فكانت
المأساة الأولى التي ظهرت على المسرح المصري القديم هي التي تناولت شخصية اوزوريس
وما تعرض له من عذاب وآلآم ، حيث ظهرت بطريقة
مسرحية في أبيدوس ، وصا الحجر .
وكانت هذه الأسطورة هي المنبع الأصيل للكاتب
اليوناني بلوتارخوس الذى جمعها وكتبها
فى قصته التي أطلق عليها ايزيس واوزوريس ،
وفي هذه الأسطورة نرى إله الخضرة " أي سر الحياة " في صراع مع أخيه ست
" إله الجدب والعواصف والفناء "
الذى يُكتب له النصر في هذا الوجود ، ومن هذه الملحمة استنبط كهنة مصر القديمة
الدراما المصرية مرتبطة بالطبيعة .
فاذا اكتست
الأرض باللون الأخضر فهذا رمز لبعث أُزوريس وانتصارًا لحورس ،واذا جفّت الأرض فهو إعلان بانتصار ست وهزيمة حورس،والمعروف
أنّ المصريين القدماء يعشقون ويحبون أن ينتصر حورس على ست وان تنتصر العدالة على
قوى الشر،ويكرهون ست لظلمه وطغيانه وجبروته معلنين تأييدهم للماعت والعدل الإلهى،وقد انتقل نفس الشىء ونفس الفكر المصرى
القديم الخاص بهذه الأسطورة إلى الفكروالمعتقد اليوناني القديم فاتخذواالهًا
للكرم هو" ديونيسوس " متشبهين
بالمصريين فى اتخاذ إله للقمح هو" اوزوريس " .
علماء الآثار وحقيقة المسرح المصرى :
وكان الأثري الفرنسي " بنيديت " من
العلماء الأوائل الذين تناولوا المسرح في مصر القديمة عام 1900 م ، فقد رأى أنّ الطقوس
الجنائزية والأعياد التي تقام تكريمًا للآلهة وخاصة اوزوريس تضم عروضًا
لمسرحيات دينية شبيهة بعروض المحاكاة التي كانت تقام في أعياد ديونيسوس والتي كانت
أصلًا للمسرح الإغريقي ، وأنّ الصلة التى ربطت بين المسرح والدين في بلاد الإغريق تجعلنا نفكر في إمكان وجود مسرح مصرى قديم
.
وفي عام 1905 صّرح الأثري الألماني " فيدمان " بأنّ مصر القديمة لم تعرف سوى العروض البدائية
الدينية ، وأنّ اليونانيين هم الذين عرفوا التمثيليات المسرحية ، واستمر هذا الاعتقاد
ساريًا ومنتشرًا لفترة طويلة حتى أعلن الأثرى
الألماني " كورت زيته " عن بعض الوثائق التي تُمثّل نصوصًا درامية ، وأشار إلى وجود المسرح في مصر القديمة ، وأتبع
ذلك بالكشف عن برديه عثر عليها " كويبل " في الرمسيوم سنه 1896 م تتضمن تفاصيل مسرحية
مقدسة تُمثّل إحياء لذكري تتويج الملك
سنوسرت الأول وذلك أثناء عهد الأسرة الثانية عشر .
ويرى " دريوتون " أنّ " لوح مترنخ " ليس
غير جزء من مسرحية مصرية منسوخ من كراسة من كراسات الممثلين ، وتجري أحداث هذه
المسرحية عند مستنقعات " خميس " التي فزعت اليها ايزيس تنشد الأمن من ست
وبين يديها إبنها حورس جثة هامدة لاحراك بها ، وهي تبكى وتقول مسكين أنت
يا حورس بشعرك الذهبي كأني بك ، وأنت في مهدك تصيح باكيًا أباك الذي فقدته ، وأنت
لا تزال في بطن أُمك جنينًا ، كم بللت الثري بدمع عينيك وندَّيته بُلعاب شفتيك ، وها
أنت ذا جسد هامد وقلب غير خافق .
وقد تم تحديد مجموعة من النصوص ذات الطابع الدرامى والمسرحى أشار إليها ووضحها
" دريوتون " مثل : مولد حورس الإله ، هزيمة ابوفيس ، صراع تحوت وأبوفيس ، ايزيس والعقارب ، عودة ست ، كما كشف " زيته " ووضح النص الموجود
على لوحة من عهد الملك " شَبَكو " من الملوك الإثيوبيين الذى يتحدث عن أُسطورة خلق الاله بتاح إله منف ، وقصة أُخرى لاوزوريس .
ويُشير
الدكتور ثروت عكاشة أنّ مصر كان لديها نوعين رئيسيين من الدراما : الحفلات الطقسية
أو الدراما الدينية ، أما الحفلات الطقسية فكان يُقيمها الكهنة في المعابد ليس لها
من ملامح الدراما إلاّ طريقة الأداء ، وما بعد هذا فإيماءات وحركات شعائرية وأقوال
تُضفي عليها ثوبًا أُسطوريًا تصلح به لأن تكون دراما فكرية .
أمّا
المسرحية الدينية فكانت تحمل كل مقومات المسرحية التي نعرفها اليوم فهي محاكاة
لأحداث الماضي قوامها أشخاص ، والحركات ، والحوار ، مما يجعلها عرضًا مسرحيًا خالصًا لا
عرضًا طقسيًا ، وثَّمة لوحة عثر عليها في ادفو سنه 1922 م ترجع إلى الأسرة الثامنة
عشر عليها نقوش تشير إلى وجود مسرحيات دنيوية إلى جانب تلك المسرحيات الدينية .
يقول
النقش على لسان " إمحب " } كنت ذاك الذي
يتبع سيده في كل جولاته دون عجز عن أداء ، وكنت أرد على سيدي في أدواره ، فاذا قام هو مقام الإله قمت أنا مقام الحاكم ، وإذا مات هو أُحييت أنا {، ثم يمضي إِمحب في تفصيل جولاته المسرحية مع اُستاذه فنعرف منه
أنّه إنحدر معه إلى الجنوب حتى أطراف النوبة ، كما صعد معه إلى الشمال حتى مدينة
" أواريس" في الدلتا التي تم تحريرها للمرة الثانية من أيد ى الهكسوس .
وبعد هذا
تنطمس النقوش على الجزء الأسفل من النصب فلا تبدو جليّة لما أصابها من تفتت ، و
يبدو هذا النص يدور حول عروض مسرحية موزعة أدوارها بين مدير الفرقة في
دور الإله وبين مساعده في دور الأمير، ينضم اليهما أفراد من الكومبارس المشاركين هم
أُولئك الذين كانوا يُمثّلون من يُميتَهمُ الإله ، ثم يردهَّم الأمير اإلى الحياة ،
و محال أن تكون هذه الأحداث في مجموعها غير أساس لإحدى المسرحيات .
وهكذا يكون عهد
مصر بهؤلاء الممثلين بداية الأسرة الثامنة عشر ، وظل ممتدًا إلى أيامنا هذه ، ويستطرد الدكتور ثروت عكاشة قائلًا : وبهذا
الدليل الذي كشف لنا عن وجود ذاك الممثل الحق أصبحنا لا نفتقد ما ندفع به إدعاء
الإغريق أنّهم الأرباب الأوائل للمسرح ، ولكن نجد
" دريوتون " يعود
فُيشّككنا في تلك القضية بأنه ليس ثمة أثر لمبنى مسرحي قديم بين الأثار المصرية ، على
نحو ما كان للإغريق القدماء .
غير أنه سرعان ما يعود فيدفع هذا الشك أنّ العصور
الوسطى الأُوروبيه لم يكن لها هي الأخرى بين أثارها أثر لمبنى مسرحي مع ما شهدته
من عروض دينية ، ومسرحيات مقدسة ، غير أنهّ يذهب إلى تعليل هذا في العصور الوسطى
الأوروبيه أن ثمة منصات من الخشب كانت تُقام للعرض المسرحي ، علي حين لم يكن
للمصريين القدماء هذه المنصات .
وإذا كانت الحفلات الطقسية أو المسرحيات الدينية لا تبيح لغير المشاركين فيها الوجود في المعابد
لم تكن ثمة حاجة إلى شرفات ، إلّا أنه مع
بدأ الأمبراطورية الطيبية الثانية بدأت الشرفات تدخل في بناء المعابد لتضم مشاهد
الدراما الدينية ، وكانت هذه الشرفات مقصورات من مكعبات حجرية يدور بها حاجز
ويُفضي إليها طريق مائل ذلك لأنها بُنيت أول ما بنيت خارج المعبد مطلة على الصحن
الرئيسي ، أوعلى البحيرة المقدسة .
وكانت هذه الحال في معابد الكرنك و مدينة هابو
و المدامود ، ثم أصبحت في العصر الأخير تُقام داخل المعبد ، كذلك كانت هذه
المسرحيات التاريخية وتلك القائمة على فكرة أخلاقية ، كما كان منها ما له لون
غنائي مثل تمثيلية الرياح الأربع التي تتناول الإنشاد فيها فتيات أربع ، تُمثّل كل
منهن ريحًا من الرياح الأربع ، ثم اخيرًا المسرحية السياسية اللاذعة وقد ثبت أن
ثمة معالم ومعايير في تحديد ما وقع لنا من نصوص متعددة .
وهناك برديتان أحداهما بمتحف
برلين والأخرى بالمتحف البريطاني مكتوب
علىيهما عبارات وإشارات تتصل بالإخراج المسرحي ، وهناك كراسات خاصة بالمخرجين
المسرحيين منذ الدولة القديمة ، تشرح بالتفصيل الخطوط الرئيسية للعمل الدرامي في
شكل سرد للأحداث ، مع ملاحظات عملية وضعت الى جوار موجزات لحوار الممثلين ، كذلك وجدت كراسات خاصة للممثلين متممة لكراسات
المخرجين ، تتضمن نصوص الحوار كاملة وتحتوي على بعض الإشارات المسرحية أو الشروح .
وقد أخذت المسرحيات كافة التي كُتب بعضها شعرًا وبعضها نثرًا ، وجمع بعضها بين الشعر والنثر
عن المواد الأسطورية التي وجدت فيها الإتجاهات المختلفة منطلقًا فسيحًا ، وبالرغم من
أن الغموض لا يزال يكتنف نواحي كثيرة من هذا الموضوع ، لا يزال الأمل معقودًا في
الكشف عن كثيرًا في المستقبل ، غير أنه لم يبقى لدينا شك في وجود مسرح مصري قديم
مستقل تُخالف مسرحياته المسرحيات الدينية التي كان يُحتفل بها في المعابد .
الفلاح الفصيح :
هو فلاح مصري فصيح جرت على لسانه منذ نحو 4000 سنه رسالة أشبه
بالقصة المسرحية تجرى أحداثها مع أحد رجالات الحكم للقضاء على الفساد وإقامة الحق والعدل ، وتبدأ
الرسالة بمقدمة مسرحية بطريقة قصصية عبارة عن تسع خُطب ، يتقدم فيها الفلاح المصرى
الجرىء والفصيح بشكواه ، في الخطبة الأولى يُواجه القائم على بيت المال " رنسى " يشكوى
ما أصابه على يدي عامله ، ويتهمه بالتفريط فى الحقوق ، ويعود في خطبته الثانية كما قال سابقًا فيغضب ويثور" رنسى " .
وفي
الخطبة الثالثة يمتدح مكانة رنسي في إقامه العدل
الماعت فيقول " أنّ من هوعظيم مثلك لا ينطق بالباطل ، ولا يَستخفَّنك مكانك
فَيُخرجك عن قدرك ووقارك ، ولا تقل غير الحق ، أنت الميزان ، ولا تبعد عن الطريق
القويم ، فأنت الاستقامه ، ولتعلم أنك والموازين صنوان ، اذا ما ملت مالت ، ولسانك لسانها ، وقلبك أثقالها ، وشفتاك ذراعاها ، حذار فان يوم الأخرة قريب " ، ويغضب رنسى ويهّم بجلده غير أن الفلاح لا يضعف ولا يهاب .
ثم يقول فى الخطبة الرابعة والخامسة " لقد
اقاموك هنا لتكون سّدًا يمنع الغريق من أن يغرق ، فاذا أنت الفيضان الذي سوف يجرفه
فى طريقه " ، و فى السادسة والسابعة يواصل الشد والجذب مابين اللين والشدة ، وفى الخطبة
الثامنة يقول " أقم العدالة ماعت فهي أبدية مع من يُقيمها في قبره ، تؤنسه في
وحشته ، وتترك له الذكري الطيبة في الدنيا فيخلد مع الخالدين " .
ويصل إلى خطبته الأخيرة فيُخوّفه من سوء العاقبة والمصير حيث يقول له " إذا جنحت الى الظلم فسوف لا تُعقّب ، وسوف لا تقرعينيك
بوريث ، وأنّ من يركب سفينة الخداع فسوف يبقى في خضم البحر ، حيث لا شاطىء ينتهي
إليه ، ولا مرفأ أن يلقي عنده مراسيه " ،
ثم يُتبع ذلك ويقول إن لم يحصل على العدل والإنصاف فسوف يتوجه إلى أنوبيس إله الموتى قاصدًا الانتحار
،ويصل الأمرإلى الملك الذى يأمر مدبر بيته بالحكم في هذه القضية ، وعندما يعود ويَطّلع
على سجل الضرائب ويعرف الحقيقة أنّ هذا الفلاح قد ظُلم يقوم برد ما تم أخذه منه
بدون وجه حق .